تفسير سورة الفجر
مكية و آياتها ثلاثون آية
( و الفجر ) أقسم الله تعالى الفجر
, الذي هو آخر الليل و مقدمة النهار , لما في إدبار الليل و إقبال النهار ,
من الآيات الدالة عل كمال قدرة الله تعالى . و أنه وحده المدبر لجميع
الأمور , الذي لا نبغي العبادة إلا له , و يقع في الفجر
صلاة فاضلة معظمة , يحسن أن يقسم الله بها . و جائز أن يكون قد أراد تعالى
فجر يوم معين , فعن مسروق و مجاهد و محمد بن كعب أن المراد به هو فجر يوم
النحر خاصة , و هو خاتمة الليالي العشر .
( و ليال عشر ) هي
العشر الأول من شهر ذي الحجة , و فيها الأضحى , و الوقوف بعرفة , الذي يغفر
الله فيه لعباده مغفرة يحزن لها الشيطان , فما رُئِي الشيطان أحقر و لا
أدحر منه في يوم عرفة , لما يرى من تَنَزُّل الأملاك و الرحمة من الله
لعباده , و يقع فيها كثير من أفعال الحج و العمرة , و هذه أشياء معظمة ,
مستحقة لأن يقسم الله بها . قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " ما من أيام العمل الصالح أحب إلى الله فيهن من هذه الأيام "- يعني عشر ذي الحجة - قالوا : و لا الجهاد في سبيل الله ؟ قال : " و لا الجهاد في سبيل الله , إلا رجلا خرج بنفسه و ماله , ثم لم يرجع من ذلك بشيء " . رواه البخاري .
( و الشفع و الوتر ) قال ابن جرير :
و الصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله تعالى ذِكره أقسم بالشفع و
الوتر , و لم يخصص نوعا من الشفع و لا من الوتر , دون نوع , بخبر و لا عقل ,
و كل شفع و وتر , فهو مما أقسم به . مما قاله أهل التأويل أنه داخل في
قسمه هذا , لعموم قسمه بذلك .
( و الليل إذا يسر ) مقبلا أو مدبرا فهو بمعنى و الليل إذا سار و السير يكون صاحبه ذاهبا أو آيبا .
( هل في ذلك قسم لذي حجر ) أي : لذي عقل و لب و حجا و دين , و إنما سمي العقل حجرا لأنه يمنع الإنسان من تعاطي ما لا يليق به من الأفعال و الأقوال . قال ابن جرير :
أي : هل فيما أقسمت به من هذه الأمور مقنع لذي حجر . و إنما عُني بذلك :
أن في هذا القسم مكتفى لمن عقل عن ربه , مما هو أغلظ منه في الأقسام .
( ألم تر كيف فعل ربك بعاد
) ألم تعلم علما يقينيّا كيف عذب ربك عادا , فيعذب هؤلاء أيضا , لاشتراكهم
فيما يوجبه من جحود الحق و المعاصي . و عاد قبيلة من العرب البائدة , و
تلقب بإرم أيضا , كانوا متمردين عتاة جبارين , خارجين عن طاعته مكذبين
لرسله , جاحدين لكتبه , فذكر تعالى كيف أهلكهم و دمرهم , و جعلهم أحاديث و
عبر , و هؤلاء عاد الأولى هم أولاد عاد بن إرم بن عَوص بن سام بن نوح ,
قاله ابن إسحاق و هم الذين بعث الله فيهم رسوله هودا عليه السلام , فكذبوه و
خالفوه , فأنجاه الله من بين أظهرهم و من آمن معه منهم , و أهلكهم بريح
صرصر عاتية " سخرها عليهم سبع ليال و ثمانية أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنّهم أعجاز نخل خاوية , فهل ترى لهم من باقية " . و قد ذكر الله قصتهم في القرآن في غير ما موضع , ليعتبر بمصرعهم المؤمنون .
( ذات العماد )
كانوا يسكنون بيوت الشَّعر التي ترفع بالأعمدة الشداد لأنهم ينتجعون
الغيوث و ينتقلون إلى الكلأ حيث كان , ثم يرجعون إلى منازلهم في الأحقاف في
حضر موت .
( التي لم يُخلق مثلها في البلاد
) أي في العِظم و البطش و الأيدي , فقد كانوا أشد الناس في زمانهم خلقة و
أقواهم بطشا , و لهذا ذكَّرهم هود عليه السلام بتلك النعمة و أرشدهم إلى أن
يستعملوها في طاعة ربهم الذي خلقهم فقال : " و اذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح و زادكم في الخلق بصطة فاذكروا آلاء الله لعلكم تُفلحون " . و قال تعالى " فأمّا عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق و قالوا من أشدُّ منّا قوة أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشدّ منهم قوة " .
( و ثمود ) هم قوم صالح عليه السلام .
( الذين جابوا الصخر بالواد ) أي قطعوا صخر الجبال , واتخذوا فيها بيوتا لهم و مساكن تقيهم برد الشتاء القارص و حر الصيف اللافح , قال تعالى " و كانوا ينحتون من الجبال بيوتا ءامنين " , و المراد بالواد واديهم الذي كان بين جبلين من جبالهم التي ينحتون منها البيوت و هو وادي القرى .
( و فرعون ذي الأوتاد
) أي الجنود الذين يشدون له أمره , أو هي أوتاد يشد بها من يعذّبه إذ كان
له أربعة أوتاد إذا أراد قتل من كفر به و خرج عن طاعته قيد كل يد بوتد و كل
رجل بوتد و يقتله , أو هي القوى و العَدد و العُدد التي تم له بها ملكه , و
رسخ بطشه و سلطانه .
( الذين طغوا في البلاد
) هذا الوصف عائد إلى عاد و ثمود و فرعون و من تبعهم , فإنهم طغوا في بلاد
الله , و آذوا عباد الله , في دينهم و دنياهم , و لهذا قال " فأكثروا فيها الفساد "
( فأكثروا فيها الفساد
) و العمل بالكفر و شُعبه , من جميع أجناس المعاصي , و سعوا في محاربة
الرسل و صد الناس عن سبيل الله , فلما بلغوا من العتو ما هو موجب لهلاكهم
أرسل الله عليهم من عذابه ذنوبا و سوط عذاب .
( فصب عليهم ربك سوط عذاب
) أي : أنزل عليهم رجزا من السماء , و أحل بهم عقوبة لا يَرُدُّها عن
القوم المجرمين , بما طغوا في البلاد و أفسدوا فيها , و قد بيّن تعالى
إهلاكهم مفصلا في غير ما سورة و آية , فأهلك عاد بالريح الصرصر , و ثمود بالصيحة العاتية , و فرعون بالغرق في البحر .
( إن ربك لبالمرصاد
) أي لهؤلاء الذين قصّ نبأ هلاكهم , و لكل جبار عات و طاغية ظالم , فالله
تعالى يرصد خلقه فيما يعملون و يجازي كلا بسعيه في الدنيا و الآخرى , و
سيعرض الخلائق كلهم عليه فيحكم فيهم بعدله , و يقابل كلا بما يستحقه , و هو
المنزه عن الظلم و الجور .
( فأمّا الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه و نعّمه فيقول ربي أكرمني
) فأما الإنسان إذا ما ابتلاه الله تعالى فأكرمه بالمال و الولد و الجاه و
نعمه بالأرزاق و الخيرات ليختبره في ذلك , فيعتقد أن ذلك من الله إكراما
له , فيقول مفاخرا , ربي فضلني على غيري لمالي من فضائل و مزايا لم تكن
لهؤلاء الفقراء , و الأمر ليس كذلك , بل هو ابتلاء و امتحان كما قال تعالى "
أيحسبون أنّما نمدُّهم به من مال و بنين , نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون " .
( و أمّا إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن ) و أما إذا اختبره و ضيّق عليه رزقه لينظر تعالى هل يصبر العبد المختبر أو يجزع , فيقول ربي أهانن أي أذلني فأفقرني .
( كلاّ
) أي ليس كل من نعّمته في الدنيا فهو كريم عليّ , و لا كل من قدرت عليه
رزقه فهو مهان لديّ , فإن الله يعطي المال من يحب و من لا يحب , و يضيق على
من يحب و من لا يحب , و إنما المدار في ذلك على طاعة الله في كل من
الحالين , إذا كان غنيا بأن يشكر الله على ذلك , و إذا كان فقيرا بأن يصبر ,
فيثيبه الله على ذلك الثواب الجزيل , و إن كان ممن ليس كذلك فينقله إلى
العذاب الوبيل .
( بل لا تكرمون اليتيم
) الذي فقد أباه و كاسبه , و احتاج إلى جبر خاطره و الإحسان إليه . فأنتم
لا تكرمونه بل تهينونه , و هذا يدل على عدم الرحمة في قلوبكم و عدم الرغبة
في الخير .
( و لا تحضون على طعام المسكين ) لا يأمرون بالإحسان إلى الفقراء و المساكين , و يحث بعضهم على بعض في ذلك .
و ذلك لأجل الشح على الدنيا و محبتها الشديدة المتمكنة من القلوب و لهذا قال تعالى " و تأكلون التراث أكلا لمّا و تحبون المال حبّا جمّا " .
قال الإمام
: و إنما ذكر التحاض على الطعام , و لم يكتف بالإطعام فيقول " و لم تطعموا
المسكين " ليصرح لك بالبيان الجليّ أن أفراد الأمة متكافلون و إنه يجب أن
يكون لبعضهم على بعض عطف بالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر , مع إلتزام
كلّ لما يأمر به , و ابتعاده عما ينهى عنه .
( و تأكلون التراث ) أي الميراث .
( أكلاً لمّا ) أي : من أي جهة حصل لهم , من حلال أو حرام . قال بكر بن عبد الله : اللمّ : الإعتداء في الميراث , يأكل ميراثه و ميراث غيره .
( و تحبون المال حبّا جمّا ) أي جمعه و كنزه , حبّا كثيرا شديدا , و هذا كقوله تعالى " بل تؤثرون الحياة الدنيا و الآخرة خير و أبقى " , " كلا بل تحبون العاجلة و تذرون الآخرة " .