الجزائر خمسون عاما من الحرية والاستقلال
مقالة للكاتب صالح عوض
كم أشعر بضرورة أن آخذ نفسا عميقا أتبعه بزفير طويل علني أمتلك من التروي ما يكفي للكتابة عن زمن الحرية والاستقلال والإحساس بشعور من خلع جلد الهزيمة وأماط عن طريقه الأشواك والمنغصات.. كيف لا وأنا في حضرة جلالة الثورة الجزائرية العظيمة التي أعادت الى العالم شعبا بهوية حضارية متميزة وحيوية فعالة بعد أن ظن الظانون أنه قد درست معالمه وبادت لغته وتفككت شبكة علاقاته الاجتماعية.
في لحظات التاريخ الفارقة في عمر امة او شعب يهيئ الله من يقوم بمهمة بعث الروح في الجموع فيتحول الخشب اليابس الى أغصان مورقة، ويجري النهر ببركات المياه العذبة الرقراقة.. هكذا تكون مهمات الأنبياء والرسل والمجددين والمصلحين الكبار مفرق طريق واضح المعالم بين منطقتين ومجالين.. وفي هذه اللحظة الفارقة تكون دعوة النبي والمصلح والمجدد غريبة كل الغرابة بعد ان استكان الناس للظلم والهوان واستسلموا لأقدار العبودية عن ألم وقهر.. فيكون النبي والمصلح والمجدد كأنما يحرثون في الهواء ويبذرون في البحر الأجاج.. وشيئا فشيئا حتى تمزق صرخات الحق حجب الظلام وينبجس النور، نور الشمس يعطب العالمين.
أجل لقد كان اجتماع الرجال الرواد الاثني والعشرين في المرادية لحظة إيداع التاريخ بذرة مجتمع جزائري ودولة جزائرية، وكان ذلك مدفوعا بوحي روح تحررت من القيود، روح صافية ونبيلة ومقدامة، فكان الإعلان الأول عن ميلاد الثورة هو في حقيقته إعلان عن ميلاد مجتمع جديد.
شهدت سنوات الثورة المسلحة السبع ونصف عبقريات متنوعة في إدارة الصراع السياسي والأوضاع التنظيمية وكل ما يتبع ذلك من ترتيبات قتال أو إعداد له او تموين او تدريب او اتصال أو.. لقد كانت تفاصيل الثورة اليومية في هذا الجانب تعبر عن دفق غير محدود من العبقريات العظيمة في مواجهة الاستعمار الفرنسي المدجج بالسلاح والتخطيط والتنوع في الأساليب.. ومع هذا الانجاز الكبير على مدار السنوات السبع ونصف كانت شبكة العلاقات الاجتماعية تتشكل من جديد، وكانت كلمة البيان الأول، بيان نوفمبر هو الروح التي دخلت على الأفراد والتجمعات وأشعلت فيهم موقد النهضة، وارتفعت بهممهم، وسمت بأرواحهم، وحددت للجموع أهدافهم المقدسة، فنشأت عن ذلك قيم جديدة من البذل والتضحية والأخوة والمحبة والجهاد، فقام الأفراد والتجمعات بما تزودوا به من روح وقيم جديدة ليشكلوا مجتمعا جديدا نفض عن كاهله العجز والكسل والسكينة والخضوع، وأصبحت إزاء واقع جديد تمام الجدة، لغة جديدة وثقافة جديدة ومجالات للتنافس جديدة، فكان المجتمع الجزائري بحق مجتمعا غير ذلك الذي كان قبل الإعلان عن الثورة.
وانتصرت الثورة المسلحة على جيوش فرنسا.. وانتصر في حقيقة الأمر المجتمع الجزائري في امتحان المخاض والولادة والانفصال العفي والقوي عن الاستعمار الثقافي والمادي الفرنسيين.. وكان على حملة المشعل ان لا يتوقفوا في نصف الطريق أو أن ينزووا الى ظل ظليل من تعب أرهق أبدانهم المنهكة.. وجد حملة المشعل ان العمل لا بد ان يستمر على جبهتين أولهما جبهة تمتين المجتمع بمؤسسات وإدارات وقوانين وهياكل ووضع خطط للتطوير والبناء الاجتماعي والثقافي ومعالجة آثار الحرب ومآسيها من مراعاة للأسرة الثورية.. والجبهة الثانية جبهة بناء الدولة التي تليق بمجتمع أعطى كل ما يستطيع وبعبقرية لانتزاع الحرية والاستقلال.. دولة لا تزول بزوال الرجال، تصبح قادرة على ان يحتكم إليها الناس في شؤونهم.. دولة بما فيها من مؤسسات قضائية ومؤسسة تشريعية وأجهزة تنفيذية وأمنية وأحزاب وقوى سياسية ودستور وقوانين.
لقد كان المطلوب على صعيد بناء المجتمع والدولة كثيرا، كيف لا والبلد والشعب يخرج للتو من حرب ضروس ولا يرث من الإمكانات المادية والخبرات المدنية ما يكفي لملء الفراغ المذهل على مستوى الإدارة والمرافق العمومية في عديد المجالات، بل لعل الخزينة كانت فارغة الوفاض، الأمر الذي دفع المجتمع فاتورته فورا عندما نهض المجتمع لسد العجز من قوت الأطفال.
في هذه الرحلة الطويلة الشاقة، تعددت الاجتهادات وتنافرت أحيانا الرؤى والأفكار في كيفية بناء الدولة والمجتمع، إلا أن الجزائر المجتمع ظل بخير رغم كل ما ينتابه من وعكاء او ضجر.. لم تمر السنون الخمسون بانسيابية ولكنها تسير نحو استقرار المعاني الكبيرة على صعيد الدولة والمجتمع.. ولم يكن متوقعا ان تمر بانسيابية والناس لا يكتنزون نموذجا محددا واقعيا موحدا عن فلسفة الحكم ولا عن نظريته.. الا ان قوة المجتمع فرضت نفسها من حين لآخر عندما كان يتم البحث عن عناصر الهوية.
خمسون سنة من الحرية والاستقلال ولدت أجيالا من الجزائريين تحت ظل علم الجزائر ورايات الحرية.. ملايين الجزائريين لم يتنفسوا هواء مسموما من ثقافة المستعمرين بل هم في كامل الإيمان بأن بلدهم حر وسيد.. خمسون عاما من الحرية والاستقلال حقق الجزائريون فيها ما لم يحققه كثيرون بالنظر للظروف التي مرت بها الدولة الجزائرية والمجتمع الجزائري.. والحديث هنا لا يريد ان يتشعب في شأن الجامعات والمطارات والمصانع والطرق والكهرباء والمنشآت العامة وتسكين الملايين وتوظيف ملايين..
ان الانتصار لا يكون بالضرورة بضربة قاضية، فالانتصار الممتع يكون بتسجيل النقط.. والجزائر على مدار الخمسين عاما سجلت نقاط انتصار كثيرة محلية وإقليمية ودولية، وأمامها درب لاحب بالمهمات الكبيرة، وهي الآن أكثر من اي وقت مضى قادرة على التحرك نحو النهضة، وقد تحصنت بفعل التجارب والتعايش الذي اجبر عليه أصحاب الرؤى والفلسفات.
ولكل المتشائمين والمحبطين والذين لا يرون الا نصف الكأس الفارغ اقول اعقدوا مقارنة بين اليوم وما قبل الاستقلال او قبل عشر سنوات في كل مجال ستجدون الجزائر الى الأمام.. ومن المؤكد ان عشاق الجزائر يريدون لها المكانة العليا التي تليق بثورتها العظيمة على مستوى البحث العلمي والتطور والنهضة الصناعية ولكن كل شيء بأجل والله غالب على أمره.. مبروك للجزائر حريتها واستقلالها ومبروك لها خمسون عاما من الحرية والاستقلال.